التحولات الاستراتيجية في سوريا: قسد وتركيا ورسم خارطة النفوذ الجديدة

منذ اندلاع الأزمة السورية، شكلت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) أحد أبرز الفاعلين في المشهد السوري. ومع ذلك، فإن التحولات الأخيرة في المواقف السياسية والعسكرية قد دفعت قسد إلى إعادة تقييم استراتيجياتها، بما في ذلك الانفتاح على تركيا، التي كانت تعتبرها خصماً تاريخياً. تأتي هذه الخطوة في ظل تغيرات دراماتيكية على المستويين الإقليمي والدولي، مما يعيد رسم خارطة النفوذ في سوريا. في هذا المقال، نستعرض هذه التحولات، أسبابها، وتأثيرها على مستقبل سوريا وقسد.
انفتاح قسد على تركيا: خطوة غير مسبوقة
في خطوة غير متوقعة، أعلن مظلوم عبدي، قائد قوات سوريا الديمقراطية، استعداده للقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. هذا الإعلان يمثل تحولاً استراتيجياً كبيراً، حيث كانت تركيا تُعتبر عدواً مباشراً لقسد بسبب ارتباطها بحزب العمال الكردستاني (PKK).
أسباب التحول:
- الضغوط العسكرية التركية: العمليات العسكرية التركية في شمال سوريا حدّت من خيارات قسد وأجبرتها على البحث عن حلول جديدة.
- تراجع الدعم الأمريكي: الانسحاب التدريجي للقوات الأمريكية وتقليص الدعم العسكري لقسد جعلها أكثر عرضة للتهديدات.
- التغيرات الإقليمية: تركيا أصبحت لاعباً رئيسياً لا يمكن تجاهله في المشهد السوري، مما دفع قسد إلى مراجعة موقفها.
النتائج المحتملة:
يمكن لهذا الانفتاح أن يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من العلاقات بين تركيا وقسد. رغم أن أنقرة لا تزال تنظر إلى قسد بعين الريبة بسبب ارتباطها بحزب العمال الكردستاني، إلا أن المصالح المشتركة، مثل تحقيق الاستقرار في شمال سوريا، قد تكون دافعاً للتعاون.
“قد يهمك: قمة المحيطات بفرنسا”
حل حزب العمال الكردستاني: نقطة تحول
في تطور غير مسبوق، أعلن حزب العمال الكردستاني حل نفسه رسمياً وإلقاء السلاح، منهياً عقوداً من الكفاح المسلح ضد تركيا. هذا القرار كان له تأثير كبير على قسد، حيث كان الحزب يشكل دعماً استراتيجياً لها. تشمل أسباب الحل:
- الضغط التركي: تمكنت تركيا من تفكيك شبكات الدعم اللوجستي للحزب وتشديد الخناق على قياداته.
- التغيرات الإقليمية: تقارب تركيا مع دول مثل العراق وإيران أدى إلى تقليص البيئة الحاضنة للحزب.
- النظرة الدولية: الدول الكبرى باتت ترى الحزب كعنصر معرقل للاستقرار، مما زاد من عزلته.
تأثير القرار على قسد:
مع فقدان الدعم الذي كان يقدمه حزب العمال الكردستاني، أصبحت قسد مكشوفة استراتيجياً، مما يجعل انفتاحها على تركيا ضرورة للبقاء.
تغير مواقف القوى الدولية
الولايات المتحدة:: تبنت إدارة ترامب نهجاً أكثر براغماتية تجاه الشرق الأوسط، حيث فضلت تعزيز العلاقات مع تركيا على حساب دعم قسد. رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا منذ عام 2011 يعكس تحولاً كبيراً في السياسة الأمريكية تجاه المنطقة.
إسرائيل: إسرائيل، التي كانت تدعم الكيانات الكردية بشكل غير مباشر، أعادت ترتيب أولوياتها. اتفاقها الأخير مع تركيا لتجنب الصدام العسكري والاستخباراتي في سوريا أدى إلى تقليص دعمها لقسد.
أوروبا: الدول الأوروبية مثل فرنسا وألمانيا بدأت تروج لنهج “العودة إلى الواقعية”، الذي يتماشى مع الرؤية التركية لدمج قسد في الدولة السورية كجزء من هيكل السلطة المركزي.
“اطلع على: العراق يؤكد الحاجة لبقاء التحالف الدولي”
التحديات التي تواجه قسد
أول هذه التحديات هي الانقسامات الداخلية، فالمجتمع الكردي في سوريا ليس كتلة واحدة، بل ينقسم بين تيارات تؤيد الحوار مع تركيا وأخرى تدعو إلى المقاومة. هذه الانقسامات تزيد من تعقيد الوضع داخل قسد.
الضغوط الخارجية:
- العمليات العسكرية التركية: استمرار الهجمات التركية يهدد مناطق سيطرة قسد.
- موقف دمشق: الحكومة السورية تحت قيادة الرئيس أحمد الشرع ترفض أي شكل من أشكال الفيدرالية أو الإدارة الذاتية.
- تراجع الدعم الغربي: انسحاب القوى الغربية يجعل قسد أكثر عزلة.
مستقبل الإدارة الذاتية الكردية
تصريحات مظلوم عبدي الأخيرة تشير إلى محاولة لإعادة تعريف الدور الكردي في سوريا الجديدة. بدلاً من السعي نحو الاستقلال الكامل، قد تسعى قسد إلى الاندماج في الدولة السورية. في نفس الوقت يمكن أن تقدم المشاريع الاقتصادية والعسكرية التركية في شمال سوريا فرصة لقسد لتحقيق الاستقرار، خاصة إذا تمكنت من بناء شراكة مع أنقرة.
“اطلع على: مذكرات تفاهم عراقية بلجيكية في مجالات متعددة”
التأثيرات الإقليمية والدولية
- على تركيا (Turkey): التقارب مع قسد يمكن أن يساهم في استقرار الحدود الجنوبية لتركيا وتقليل التهديدات الأمنية.
- على سوريا: دمج قسد في مؤسسات الدولة السورية قد يساهم في تحقيق المصالحة الوطنية، ولكن قد يثير أيضاً غضب الفصائل الكردية المعارضة.
- على المجتمع الدولي: التحولات في سوريا تعكس تراجع النفوذ الغربي وصعود القوى الإقليمية مثل تركيا، مما يعيد تشكيل ميزان القوى في الشرق الأوسط.
تشكل التحولات الأخيرة في موقف قسد لحظة فارقة في تاريخ سوريا. مع تراجع الدعم الدولي وتصاعد الضغوط الإقليمية، تسعى قسد إلى التكيف مع الواقع الجديد من خلال الانفتاح على تركيا وإعادة تقييم استراتيجياتها. رغم التحديات الكبيرة، قد يكون هذا التحول فرصة لإعادة رسم دور الأكراد في سوريا الجديدة. الأيام المقبلة ستكون حاسمة في تحديد مستقبل قسد وسوريا، في ظل خارطة نفوذ جديدة يتم رسمها في أنقرة وليس في واشنطن أو موسكو.