النضال من أجل رعاية صحية نفسية في ظل الأزمات المتعددة في لبنان | ليلى يَمّين

6 يوليو 2024 - 11:50 م

هذا النص هو مساهمة “ماشالله نيوز” في ملف الصحة النفسية في المنطقة العربية الذي  أنتجته شبكة المواقع الاعلامية المستقلة حول العالم العربي، والتي تضم علاوة على “السفير العربي”، “أوريان 21“، “مدى مصر“، “حبر“، “ماشاالله نيوز“، “المغرب الناهض“، “نواة“، و”باب المد“.

ليلى يَمّين*
يقضي البروفيسور “رامي بو خليل”، في “أوتيل ديو”، أحد أكبر المستشفيات الخاصة في البلاد، جل وقته المهني في التفاوض مع المرضى. هنالك عدد كبير لا يستطيع التكفل بالعلاجات التي يصفها لهم، لذلك يعودون إلى المستشفى طلباً لتغييرها، سواء من ناحية الجرعة أو الكم أو عدد المرات أو النوعية. ولا يعود ذلك إلى كونهم يشعرون بتحسن، أو بسبب الأعراض الجانبية، وإنما نظراً للعَرَض الجانبي الرئيس، برأيهم، ألا وهو “كلفة الدواء”.

البروفيسور “رامي بو خليل”، طبيب نفسي عمره 44 عاماً، يمارس المهنة منذ 2012، ويشغل حالياً منصب مدير “قسم الطب النفسي” في المستشفى، فضلاً عن كونه أستاذاً مشاركاً في الطب النفسي في “جامعة القديس يوسف” في بيروت. “لا يمكنني القول إن الوضع العام للصحة النفسية للناس جيد، ولكن الأثرياء يحصلون على علاج نفسي من الدرجة الأولى”.

تفاقم الفقر في لبنان منذ أن بدأ البروفيسور “بو خليل” ممارسة مهنته، وخاصة منذ عام 2019. فقد ارتفع في الفترة ما بين 2012 و2022، من 12 في المئة إلى 44 في المئة بحسب البنك الدولي، بينما تضاعف معدل الفقر متعدد الأبعاد من 42 في المئة عام 2019 إلى 82 في المئة من مجموع السكان عام 2021.

مقالات ذات صلة

إن هذه الأرقام الخطرة ناجمة عن الانهيار الاقتصادي، الذي وصفه البنك الدولي بأنه إحدى “أسوأ حلقات الأزمات العالمية منذ منتصف القرن التاسع عشر”. وقد شل الانهيار نظام الصحة العام، الذي كان هشاً ومنكسراً مسبقاً، نظراً لانعدام السياسات الوطنية الساعية إلى نظام صحي شامل. وخلّف الضغط الهائل ــ منذ بدايات الانهيار المالي ــ ملايين العاجزين عن تحمل نفقات خدمات الرعاية الصحية.

نظام الرعاية الصحية في لبنان يخدم القلة من النخبة صاحبة الامتيازات. لذلك بقيت الأكثرية المهمشة في البلاد – نظراً لقلة الدعم الحكومي الذي يُعتمد عليه – عرضة للمشاكل الصحية، والنفسية منها على وجه الخصوص.

خلّف نظام الخصخصة السائد في لبنان كثيراً من العاجزين عن نيل الدعم الصحي النفسي عند الحاجة إليه، لارتفاع كلفة خدمات الصحة النفسية إلى حد لا يستطيعه إلا القلة القليلة.

تتراوح هذه الخدمات بين سهولة القبول في المشفى، والاستشارة، إلى العلاج طويل الأجل مع أطباء نفسيين، والعلاج النفسي مع معالجين نفسيين، والأدوية، انتهاءً بالمصحات النفسية. كل هذا غير مغطّى بالتأمين الصحي الخاص. وبالتوازي، فإن 45 في المئة من السكان لا يمتلكون أي نوع من التأمين من الأساس.

ليست للجميع

تجلس سامية ونور (أسماء مستعارة) في مقهى صغير، بجانب “الجامعة اللبنانية العالمية LIU” مع باقي أصدقائهن. يمزحن ويتبادلن الملاحظات من صفوف مختلفة، وأحياناً يجلسن هناك فقط ليكُنّ مع بعضهن بعضاً. يخبئ المقهى كافة أسرارهن.

مقالات ذات صلة

سامية (21 عاماً) تخرجت بشهادة بكالوريوس في مجال “الإذاعة والتلفزيون”. لقد دمر الانهيار المالي حياتها، كما تقول. أرادت أن تصبح محامية، وأن تدرس في “الجامعة اللبنانية”. لكن والدها خسر وظيفته بعد الأزمة الاقتصادية، وصار متشدداً معها وأكثر تملكاً. فلم يسمح لها بالالتحاق بالجامعة اللبنانية، لأنها بعيدة عن المنزل – على مسافة عشر دقائق بالسيارة.

لذلك وَجَب عليها بدلاً من ذلك، البحث عن دراسة أخرى، في جامعة أقرب إلى منزل والديها. وصار الأهل خلال تلك المرحلة المعيلين للعائلة، مما زاد الضغوط عليها، لأنها كانت تشعر بأنها مدينة لهم.

كان على سامية البحث عن وظيفة، فهي السبيل الوحيد للإفلات من قبضة عائلتها. وكانت الوظيفة الوحيدة التي وجدتها في مجال البيع بالقطعة. إلا أن ذلك كان كافياّ، إذ عنت الوظيفة شيئاً مهماً واحداً: التمكن من دفع تكاليف العلاج النفسي.

“كنت أعلم أن جلسة العلاج قد تكلف 20 دولاراً! ومن أين سأجد هذا المبلغ؟ ومن الصعب أن تجد من يقبل بأقل من هذا،” تقول بإحباط. “أين سأذهب حينها؟ إلى المنظمات غير الحكومية؟” تضيف ساخرة. لكن ما لم تكن سامية تعلمه، هو أن بعض المعالجين النفسيين يتقاضون ما يقرب من 150 دولاراً للجلسة، وأن مبلغ 20 دولاراً كان الحد الأدنى في عيادات قليلة جداً.

سعت بدلاً من ذلك، إلى الحصول على المساعدة من معارفها. “لدي صديق يدرس علم النفس، وكان مصدري الوحيد، لهذا تواصلت معه وأخبرته بأنني أبحث عن أحد يساعدني، فقد كنت بحاجة ماسة لذلك”.

مقالات ذات صلة

شرحتْ سامية إحباطاتها وضائقتها المالية، وبهذا تمكّن صديقها بعد بحث مطول من تعريفها بمحترِف متفهم قبِل بأجر أقل من المعتاد. “وأحمد الله أني وجدته. فقد تغير الكثير خلال الأشهر القليلة التي تعاملتُ معه فيها. أصبحتُ أفهم نفسي بشكل أفضل، وكذلك محيطي”، تشرح بابتسامة تعلو وجهها.

ولكن مرة أخرى، كان على سامية أن تقطع الجلسات. فقد تركت وظيفتها، ولم يعد بإمكانها توفير السعر الرمزي للجلسات.

تعامي؟

أطلقت وزارة الصحة العامة في نيسان/ أبريل 2014، “المشروع الوطني للصحة النفسية”، بدعم من “منظمة الصحة العالمية”، والـ”يونسيف” و”الهيئة الطبية الدولية”. وعلى الرغم من أن وزارة الصحة تقول بأن “تنفيذ هذه الاستراتيجية يسير بنجاح منذ انطلاقتها،” إلا أنه بحسب موقعهم، لا يزال هناك كثيرٌ مما يجب القيام به على الأرض، لكي يصل بشكل فعال ومؤثر إلى الجمهور الأوسع. إضافة إلى أن انعدام التمويل المناسب يلعب دوراً كبيراً في فعالية هذه الاستراتيجية.

… وهكذا أطلقت وزارة الصحة استراتيجية أخرى، تهدف إلى إرشاد العمل الذي يجب أن يتم خلال السنوات السبع القادمة، حتى 2030، وهي “استراتيجية الصحة الوطنية: تَصَوُّر 2030”. يهدف هذا التصوُّر إلى وضع إطار عمل، من أجل إنعاش مستدام ومحدّث لقطاع الصحة النفسية، من أجل مواجهة تحديات توجيه نظام صحي منهَك.

نشرت الوزارة وثيقتين على موقعها في تلك الأثناء: الأولى قائمة بالأخصائيين النفسيين المرخصين في لبنان، تشتمل على أسمائهم كاملة، وأرقام رخصهم وتخصصاتهم، مستثنية معلومات الاتصال والمواقع وأسعار الجلسات!

نشرت الوثيقة الثانية في المقابل، قائمة بمراكز العناية الصحية الأولية، التي لديها طبيب نفسي وعلاجات متخصصة في الصحة النفسية، في كافة أنحاء البلاد. وقد تمّ آخر تعديل لها في 2023. تهدف هذه المراكز إلى تقديم الرعاية الصحية الأساسية للأفراد والعائلات في المجتمع، بكلفة مقدور عليها.

مقالات ذات صلة

تكمن المشكلة ــ في هذه الخطوات الصغيرة ــ في محدودية فعاليتها ضمن الاقتطاعات الحادة في الميزانية، حيث خصص 5 في المئة فقط لخدمات الصحة النفسية من مجموع نفقات الصحة الحكومية، بحلول 2020، و1 في المئة من ميزانية وزارة الصحة العامة. إضافة إلى أن انخفاض أجور العمال في القطاع العام، ومحدودية الاستفادة للعامة – الذين لا يزالون غير قادرين على تحمل تكلفة معالِج نفسي، تحد بدورها أيضاً من فعالية خطة الوزارة.

“يمكن للراغبين في الحصول على خدمات الصحة النفسية، ولكن لا يستطيعون تحمل التكلفة، الذهاب إلى مراكز الصحة النفسية الأولية” بحسب البروفيسور “بو خليل”. “لكني لا أعرف مدى معرفة المرضى بوجود هذه الخدمات”.

يوضّح البروفيسور “بو خليل” بأن الطلب يفوق كثيراً ما تقدِّمه هذه المراكز حالياً. “الملايين من الناس مقابل 20 مركزاً أو ما يزيد قليلاً؟” يتساءل. في الواقع، فإن الرقم الإجمالي لمراكز الرعاية الصحية الأولية التي تعتمد طبيباً نفسياً وعلاجات مخصصة للصحة النفسية هي 58 مركزاً، مبعثرة في أنحاء لبنان، إلا أنها ليست كافية لخدمة الطلب المرتفع على خدمات الصحة العامة، والنفسية منها على وجه الخصوص.

وقد أدت الأزمة إلى نزوح الأطباء والمحترفين من لبنان، فهاجر حوالي 3500 طبيب من بينهم أطباء نفسيون. أما بالنسبة إلى العديد ممن بقوا، فيعمل أغلبهم عادة في القطاع الخاص، على اعتبار أن فقدان العملة اللبنانية لقيمتها قد خفض قيمة دخل الموظفين العامين بشكل ملحوظ. يعتقد البروفيسور “بو خليل” بأن كثيراً من الأطباء النفسيين، لن يقبلوا العمل في القطاع العام حالياً، نظراً لتدني الأجور وفقدان العملة لقيمتها. وهم ليسوا وحيدين في هذا. فبحسب دراسة قامت بها “إدارة الإحصاءات المركزية” و”منظمة العمل الدولية”، فإن 81 في المئة من العمالة تتركز في القطاع الخاص، بينما 16.1 في المئة من العمالة في القطاع العام، وذلك بتاريخ كانون الثاني/ يناير 2022.

في المقابل، فإن عدد المختصين في الصحة النفسية نادر، بالنسبة إلى العدد الإجمالي للسكان. فهنالك في 2022، 1.21 طبيباً نفسياً، 3.14 ممرضة، و3.3 أخصائي نفسي، لكل مئة ألف شخص في لبنان.

تقول سامية بأنها كانت ستذهب إذا ما توافرت مثل هذه الخدمات. “لو أن الدولة تقدِّم هذه الخدمات، فسأذهب بالتأكيد. في الواقع، سأكون أول الذاهبين!”، وتعبر قائلة: “وضعنا الاقتصادي سيء جداً حالياً. نحن بحاجة إلى هذه الخدمات”.

تجد سامية وأصدقاؤها العزاء فيما بينهم في هذه الأثناء. “لدينا جميعاً قصة وقضية، البعض لديه مشاكل مالية، والبعض لديه قضايا تعليمية … ندعم بعضنا بعضاً بأفضل طريقة نعرفها ونستطيعها”.

وصم أقل؟

نور (35 عاماً) هو أحد أصدقاء سامية، ويدرس تخصصها نفسه في “الإذاعة والتلفزيون”. كان يعمل قبل عدة أعوام في محطة تلفزة محلية، ووَجَبَ عليه أن يصوِّر تقريراً مع أخصائية نفسية. وقد دفعه سماعها تتحدث حول الصحة النفسية إلى إعادة النظر في أفكاره المسبقة حول الموضوع.

كان يعتقد أن الباحثين عن الدعم الصحي النفسي هم “مرضى نفسيون” كما يقول. لكن حاول أن يجرِّب عدة جلسات من دون أن يخبر أحداً، وشعر بتأثير ذلك في حياته. “فقد تغيرت أمور مثل طريقة نظرتي إلى ذاتي وإلى الآخرين. وتعلمتُ كيفية التعامل مع مجتمعي والمتنمرين من حولي”، بحسب قوله. “شعرت كأن صخرة قد أزيحت عن صدري”.

يتذكر نور عندما كان أصغر سناً، ويلعب مع جيرانه، وكيف كانوا يتنمرون على بعضهم بعضاً، وينادون بعضهم “بالمرضى النفسيين” أو “المجانين.” حتى أن بعض الأولاد كان يهدد بالطبيب النفسي، فيقولون “أقسم بأني سآخذك إلى طبيب نفسي!” لكن نور يضيف بأن هذا جهل.

تعتقد سامية بأن الأزمة الاقتصادية قد دفعت بالناس الى إعادة النظر في أهمية الصحة النفسية. تقول إن “الموضوع كان من المحرمات”. “كان الناس يعتقدون بأن من يذهب إلى طبيب نفسي أو معالج نفسي، هو “مريض عقلي”، أو “مجنون”، ويوصم الشخص مباشرة. ولكن أعتقد أن الناس بدأت تنظر إلى الوضع بعد الأزمة من منظور مختلف”.

اضطر نور الآن إلى وقف جلسات العلاج. “لا أستطيع حتى دفع 10 دولارات للجلسة. لدي أولويات مالية الآن، ولكن أتمنى أن أعود مجدداً.” صار مجبراً الآن على القيام بخيارات وإعطاء الأولوية لاحتياجات البقاء الأساسية، على حساب صحته النفسية الشخصية.

يرى البروفيسور “بو خليل” أن هذا الوضع يسري على العديد من المرضى. “لا يمكنهم الاعتناء بأنفسهم وبصحتهم النفسية لأنه يتوجب عليهم دفع الفواتير، ولهذا يعالجون أنفسهم، وبدأ بعضهم باستخدام “الحشيش” و”الكحول” بدلاً من العلاج”، يضيف بإحباط.

إرهاق

صارت الحال الذهنية للناس هشة جداً، منذ الانهيار المالي في 2019 وما تلاه من جائحة “كوفيد 19” وانفجار “مرفأ بيروت” في 2020. يقول البروفيسور “بو خليل” إن الفترة التي تلت مباشرة هذه الأحداث الدامية كانت في غاية الصعوبة. “كنا نشهد الناس تضع حداً لحياتها لأنها لا تستطيع إطعام أطفالها، ولا تجد وظائف، وقد خسرت أموالها في البنوك. صار العنف وأذى الذات هي العناوين التي تتصدر الأخبار بالعادة”. يقول “بو خليل”.

حاول الناس في السنة الأخيرة ـ أو ما يقاربها ـ أن يتصدوا للمآسي الفردية والجمعية، حيث انخفضت معدلات الانتحار بما يقارب 19 في المئة عام 2022 عنها في 2019. ولكن، مع انعدام الخدمات، لا يزال كثيرون غير قادرين على إيجاد المساعدة.

مقالات ذات صلة

بحسب البروفيسور “بو خليل”، يمكن تحسين الوضع من خلال زيادة الوعي، وتخفيض الوصم وتحسين الخدمات وتغطيتها. “نحن جميعاً مدمَّرون،” تقول سامية والدموع في عينيها. “جميعنا، كل الشعب اللبناني كذلك. وضعنا مأساوي”. “الناس مرهقة”، يقول البروفيسور “بو خليل”. يعيش كثيرون في حالة شك ويتركون صحتهم النفسية من دون مراجعة أو علاج.
هناك صدمات أخرى تتأرجح في الجو: فمنذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر، تعرض الناس لمشاهد يومية من العنف والفظاعات المَعِيْشَة في غزة، ومنذ اليوم التالي له، تزايد العدوان الإسرائيلي على جنوب لبنان. قتل حصيلة ذلك ما يزيد عن 450 شخصاً، وجرح المئات، ودمرت القرى جزئياً، ونزح منها عشرات الآلاف. يخاف البعض من اتساع هذه الحرب، ومن أن تصب جامها على البلاد برمتها، مما سيزيد من المعاناة اليومية، والخوف والقلق.

كانت سامية تسند ظهرها إلى أريكة المقهى الأخضر، وتبتسم بارتياح، وتتحدث عن أصدقائها ونظام الدعم. ولكن ما أن فكّرت بالمستقبل، حتى توتر جسدها، وجلست باستقامة، ومسحت الابتسامة عن وجهها، وضمت أصابعها وكأنها تصلي، وقالت، شبه هامسة، “لا أحد يعلم ما سيحدث، وعلينا أن نعيش الأمر يوماً بيوم في الوقت الحالي”.

“نحن لسنا محميين. […] نحن معرضون لمستويات عليا من الانهيارات النفسية ومشاكل الصحة الذهنية،” يقول “بو خليل”.

______________________

*باحثة من لبنان
-ترجمت النص ريما العيسى