«ناسا» .. وتجربة الاقتراب من الشمس
«ناسا» .. وتجربة الاقتراب من الشمس
توجد مزحة في وكالة ناسا تقول إن المهام يتم التخطيط لها عمداً بحيث تتزامن مع الأعياد الكبرى. لقد سمعت أن المراسلين العلميين المتذمرين غالباً ما يشيرون إلى النمط باستخدام هاشتاج «#ناسا تكره الأعياد» #NASAHatesHolidays. على سبيل المثال، دخلت المركبة جونو في مدار حول كوكب المشتري في 4 يوليو 2016، وهبطت المركبة إنسايت على المريخ عقب عيد الشكر مباشرة في عام 2018، وتم إطلاق تلسكوب جيمس ويب الفضائي في 25 ديسمبر 2021، وفي مثل هذا هذا اليوم منذ 56 عاماً، التقط طاقم أبولو 8 الصورة الشهيرة «شروق الأرض» عشية عيد الميلاد عام 1968.
هذا الموسم الاحتفالي ليس استثناءً من تدخل «ناسا»: ففي 24 ديسمبر، قامت مركبة باركر الشمسية بأقرب اقتراب لها من الشمس. في تمام الساعة 6:53:48 صباحاً بتوقيت شرق الولايات المتحدة، حيث من المفترض أن تكون المركبة على عقب 3.8 مليون ميل فحسب من نجمنا الأم، داخل الهالة الشمسية الحارقة، أو الغلاف الجوي للشمس. باستخدام تشبيه رياضي، إذا تم تقليص المسافة بين الأرض والشمس إلى طول ملعب كرة قدم، مركبة باركر الشمسية كانت عند الخط الرابع للشمس، عميقاً داخل المنطقة الحمراء. وسافرت بسرعة 430000 ميل في الساعة – أي نحو 60 ضعف سرعة أسرع طائرة على الإطلاق، وبسرعة أقل قليلاً من ضربات البرق على الأرض. وستمتص أيضاً جرعة من الإشعاع الشمسي أقوى بنحو 600 مرة مما نتعرض له هنا على الأرض.
إن هذه الرحلة التي تستغرق 10 دقائق من الشمس هي بمثابة رحلة إلى الجحيم والعودة.
تشرح هذه الأرقام القصوى، والتحديات الحرارية والتكنولوجية للحفاظ على المركبة الفضائية على قيد الحياة، لماذا كانت مهمة مثل مهمة باركر الشمسية (باركر سولار) مجرد حلم أشد منها واقعاً لأكثر من نصف قرن. أعتقد أن المسبار هو أحد أصعب وأهم المهام التي نفذتها ناسا على الإطلاق. أثناء مسيرتي المهنية كعالم فضاء، قمت ببناء وتشغيل عدد من الأدوات الخاصة بمراقبة الشمس. كنت جزءاً من الفريق الذي حدد مهمة المسبار الشمسي، ولاحقاً، كمسؤول علمي في «ناسا»، قمت بتسمية المهمة، وأشرفت على التطوير النهائي للمشروع وشهدت إطلاقه في 12 أغسطس 2018.
اختيار اسم المهمة كان له دلالة خاصة. في عام 1958، قام عالم الفيزياء الفلكية الشاب «يوجين باركر» بتقديم توقع لدرجة أنه ربما كان لينهي حياته المهنية: الغلاف الجوي الشمسي ينتج رياحاً أسرع من الصوت تنحت الغلاف الشمسي. هذا الغلاف هو منطقة تأثير الشمس المليئة بسائل مغناطيسي رقيق يغمر جميع شيء في نظامنا الشمسي. يمكن رؤية هذه الهالة بالعين المجردة فحسب أثناء الكسوف الكلي للشمس – مثل الكسوف الذي أثار إعجاب الولايات المتحدة في أبريل الماضي.
ولكن توقع باركر تحدى المعتقدات العلمية السائدة آنذاك، ووضعه على الفور في مواجهة مع قادة العلم الذين اعتبروا فكرته محفزة للسخرية. وفقد باركر وظيفته كمحاضر، واقترح أحد المحكمين في مجلة الفيزياء الفلكية أن «يذهب إلى المكتبة ليتعلم بدلاً من كتابة أبحاث مثل هذه». لكن أحد المحررين رفض رأي المعارضين ونشر الورقة البحثية بشجاعة.
لكن العلم ليس مسابقة شعبية. قدمت نظرية باركر توقعات قابلة للاختبار حول السرعة والكثافة ودرجة الحرارة التقريبية للرياح الشمسية فوق الصوتية، وعن شكل المجال المغناطيسي الذي تحمله إلى الفضاء. وقد أثبتت عدد من التجارب الفضائية البسيطة ولكن الرائدة عافية باركر أثناء بضع سنوات.
ومع ذلك، ظل فهم البيئة القريبة من الشمس بعيد المنال. كيف يمكن للشمس، التي تقل درجة حرارة سطحها عن 10000 كلفن (17540 درجة فهرنهايت)، أن تنتج هالة تصل إلى مليون درجة أو أشد؟ كيف تعمل الشمس على تسريع الجسيمات إلى ما يقرب من سرعة الضوء – وهي نفس الجسيمات التي تسهم في إحداث الطقس الفضائي مثل الشفق القطبي عند تأثيرها على الأرض؟ وكيف يتم تشغيل هذا المسرع من داخل الشمس؟
تطلبت الإجابة إرسال مركبة فضائية قريبة جداً من الشمس، لأن العمليات الفيزيائية الأكثر أهمية في الهالة الشمسية ذات طبيعة مغناطيسية وتظل مخفية عن الملاحظات البعيدة. أيضاً، أظهرت القياسات التي أجريت بالقرب من مدارات الأرض والزهرة وعطارد أن الرياح الشمسية قد تنشأ بالفعل من مناطق صغيرة نسبياً في الهالة الشمسية تخفيها تفاعلات البلازما الفوضوية. إذا أردنا أن نفهم كيف يتم تسخين الرياح الشمسية وتسريعها، فعلينا الاقتراب من وجه الشمس.
لقد أمضيت مع علماء بارزين آخرين الكثير من الوقت في إقناع مجتمع الباحثين والشخصيات الرئيسة الأخرى بأن مثل هذه المهمة تستحق التقنيات الجديدة التي ستكون مطلوبة. في عام 2013، أيد مجتمع الفيزياء الفضائية فكرة المسبار – مع اقتراح حد أقصى لتكاليفه البالغة 1.5 مليار دولار. عندما انضممت إلى وكالة ناسا في عام 2016، رأيت أنه بالإضافة إلى التركيز العميق على التميز التقني، كانت قيود التكلفة والجدول الزمني هي التي تدفع تصميم وتطوير هذه المهمة.
في النهاية، تم تحقيق الابتكارات التكنولوجية الضرورية، وأصبحت المركبة أول مركبة تُسمى باسم عالم كان لا يزال على قيد الحياة. وحضر باركر عملية الإطلاق في عام 2018.
منذ ذلك الحين، أكمل مسبار باركر عشرات المدارات المتزايدة قرباً من الشمس، مما أدى تدريجياً إلى إزالة غموض الجهل الشمسي. وكشف عن الطبيعة الحقيقية لتسخين الهالة وحدد مصادر الرياح الشمسية. كما استكشف المسبار كيف تعمل الشمس على تسريع الجسيمات النشطة التي تشكل الطقس الفضائي.
وكما هو الحال دائماً مع استكشاف الفضاء، فإنه يقدم أيضاً الكثير من العلوم غير المخطط لها والمفاجئة، وغالباً ما تكون جميلة. صور مذهلة لكوكب الزهرة. معرفة تيارات غبارية داخل مدار عطارد. مع اقتراب مسبار باركر الشمسي من أقرب مدار له وأكثرها تحدياً من الناحية الفنية، رسم خريطة تيارات وحقول البلازما في المجال بين الشمس والأرض.
توماس زوربوشن
رئيس العلوم في وكالة ناسا من عام 2016 إلى عام 2022
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنج آند سينديكيشن»